استشكالات أولية:
رغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص
طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة وهوية
تظل مطابقة لذاتها على الدوام. غير ان هذه الوحدة التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك
أسئلة عديدة
بل إن البديهي يشكل الموضوع الأثير والمفضل للفكر الفلسفي.
ويمكن القول أن الفيلسوف يصادف إشكالية الوحدة المزعومة للهوية الشخصية في معرض
بحثه في الماهيات والجواهر. يتساءل الفيلسوف: إذا كان لكل شيء ماهية تخصه، بها
يتميز عن غيره، فهل هناك ماهية تخص الفرد، بها يتميز عن غيره بشكل مطلق؟ خصوصا إذا
علمنا أنه ما من صفة فيه، جسمية او نفسية، إلا ويشاطره التخلق بها عدد قليل أو كثير
من الأفراد؛ وإذا عرضنا الشخص على محك الزمن والتاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا رغم
تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟ وهل هذا الجوهر كيان ميتافيزيقي مكتمل
التكوين منذ البدأ، أم أنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، وعملية
تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير؟.
أ-ثبات الأنا واستمراريته في الزمان:
موقف
ديكارت: التصور الجوهراني الماهوي للهوية الشخصية
نلاحظ أن
الفرد يستطيع التفكير في الموجودات الماثلة أمام حواسه أو المستحضرة صورتها عبر
المخيلة، ولكنه يستطيع أيضا التفكير في
ذاته ، في
نفسه هذه التي تفكر!!
يسمى هذا التفكير
وعيا وهو نفس الوعي الذي اعتمدعليه
ديكارت في " الكوجيطو" وخصوصا وعي الذات بفعل التفكير الذي
تنجزه في لحظة الشك أي الوعي بالطبيعة المفكرة للذات التي تقابل عند
ديكارت طبيعة الإمتداد المميزة للجسم.
تساءل ديكارت في
التأمل الثاني: "أي شيءأنا إذن؟ " وأجاب: " أنا شيء مفكر"
ولكن هل وراء أفعال
الشك والتذكر والإثبات والنفي والتخيل والإرادة...هل وراءها جوهر قائم بذاته؟
يجيب ديكارت بنعم : إنها النفس، جوهر خاصيته الأساسية التفكير، أي أن للكائن
البشري طبيعة خصائصها هي أفعال التفكير من شك وتخيل وإحساس ...وهي مايشكل الهوية
الشخصية للكائن البشري، بل إنها صفته الأكثر يقينية، والأكثر صمودا أمام أقوى عوامل
الشك
موقف جون لوك:نقد التصور الجوهراني الماهوي: ليست
الهوية الشخصية سوى ذلك الوعي أو المعرفة المصاحبة
لإحساساتنا
يرى "جون لوك" أن مايجعل الشخص " هو نفسه" عبر أمكنة
وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية
من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية
الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان
"إذن فلوك"
و "ديكارت" مجمعان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك-
يشم ويتذوق!
ولكنهما يختلفان فيما يخص وجود جوهر قائم بذاته يسند هذا الوعي
وهذه الاستمرارية التي يستشعرها الفرد؛، والواقع أن " الجوهر المفكر" -من وجهة نظر
المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها انسجاما مع نزعته التجريبية
التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس،
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمربالماضي يصبح
الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر، أي أن الهوية
لاتقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولاتستمر إلا مادام هذا الوعي مستمرا
موقف دافيد هيوم: النقد الجذري للتصور الديكارتي
الماهوي
دافيد هيوم فيلسوف تجريبي، لايعترف بغير الانطباعات
الحسية مصدرا أولا للأفكار،
وعليه فلكي تكون فكرة ما واقعية، فلابد لها أن
تشتق من انطباع حسي ما، والحال أن فكرة "الأنا" أو "الشخص" ليست انطباعا
حسيا مفردا، بل هي ماتنسب إليه مختلف الانطباعات. وإذا ما وجد انطباع حسي مولد
لفكرة "الأنا" فلابد أن يتصف هذا الانطباع بنفس صفات الأنا وهي الثبات والاستمرارية
طيلة حياتنا، والحال أنه لاوجود لانطباع مستمر وثابت: إن الألم واللذة، الفرح
والحزن، الأهواء والاحساسات...، حالات شعورية تتعاقب ولاتوجد أبدا متزامنة
أومجتمعة. وعليه ففكرة الأنا لايمكن ان تتولد عن هذه الانطباعات ولاعن أي إنطباع
آخر، ومن ثم فلا وجود لمثل هذه الفكرة واقعيا، ومن باب أولى ينبغي الامتناع عن أي
حديث عن الهوية الشخصية كجوهر قائم بذاته.
ب-
الذاكرة والهوية الشخصية
بغض النظر عما إذا كانت الهوية
جوهرا قائما بذاته أو تعاقبا لحالات شعورية متباينة، فإن الهوية ليست كيانا
ميتافيزيقيا مكتمل التكوين منذ البدأ، إنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في
الذاكرة، وعملية تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير
سبق لــ
ابن سينا أن لاحظ، في هذا الإطار، بأن فعل التذكر هو الذي
يمنح الفرد شعورا بهويته وأناه وبثباتها.ويتجلى هذا واضحا في شعور الفرد داخلياً
وعبر حياته باستمرار وحدة شخصيته وهويتها وثباتها ضمن الظروف المتعددة التي تمر
بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمر بها في الحاضر واستمرار اتصالها مع
الخبرة الماضية التي كان يمر بها.
إذا كانت الذاكرة هي مايعطي لشعور الشخص بأناه
وبهويته مادتهما الخام، فإن امتداد هذه الهوية في الزمان، كما يلاحظ جون لوك، مرهون
باتساع أو تقلص مدى الذكريات التي يستطيع الفكر أن يطالها الآن: وبعبارة أخرى إنني
الآن هو نفسه الذي كان ماضيا وصاحب هذا الفعل الماضي
هو نفس الشخص الذي يستحضره الآن في ذاكرته.
لهذا السبب، وعندما يتساءل برغسون عن ماهية الوعي
المصاحب لجميع عمليات تفكيرنا، يجيب ببساطة: إن الوعي ذاكرة، يوجد بوجودها ويتلف
بتلفها
ومن الجدير بالذكر أن الوعي بالذات على هذا النحو الأرقى ليس مقدرة
غريزية او إشراقا فجائيا، بل هو مسلسل تدريجي بطيء يمر أولا عبر إدراك وحدة الجسم
الذي ينفصل به الكائن عما عداه وعبر العلاقة مع الغير.
:الشخص بوصفه قيمة2استشكالات أولية: مالذي يؤسس البعد القيمي-الأخلاقي للشخص؟ وهل يمكن فلسفيا تبرير الاحترام
والكرامة الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري ؟ وما علاقة ذلك بمسؤوليته والتزامه كذات
عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها ؟
يستفاد من المحورين
السابقين أن الفرد وبشكل مجرد سابق على كل تعيين - أي وقبل أن يتحدد بطول قامته أو
لون عينيه او مزاجه أو ثروته- هو ذات مفكرة، عاقلة، واعية قوامها الأنا الذي يمثل
جوهرها البسيط الثابت ، وذلك بغض النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول طبيعة
هذا الأنا وعلاقته بالجسد والانطباعات الحسية والذاكرة...
ولكن مافائدة هذا
التجريد النظري على المستوى العملي؟ هل يمكن أن نرتب عليه نتائج أخلاقية ملموسة؟
موقف كانط:العقل أساس قيمة الشخص
وكرامته
انطلاقا من هذا التجريد، ذهب كانط بأن الإنسان هو أكثر من مجرد معطى طبيعي، إنه ذات لعقل
عملي أخلاقي يستمد منه كرامة أي قيمة داخلية مطلقة تتجاوز كل تقويم أو سعر.إن قدرته
كذات أخلاقية على أن يشرع لنفسه مبادئ يلتزم بها بمحض إرادته، هي ما يعطيه الحق في
إلزام الآخرين باحترامه أي التصرف وفق هذه المبادئ. ومادام هذا العقل الأخلاقي
ومقتضياته كونيا، فإن الأنسانية جمعاء تجثم بداخل كل فرد مما يستوجب احترامه
ومعاملته كغاية لاكوسيلة والنظر إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء. وهذا
الاحترام الواجب له من طرف الغير لاينفصل عن ذلك الاحترام الذي يجب للإنسان تجاه
نفسه،إذ لا ينبغي له أن يتخلى عن كرامته، وهو ما يعني أن يحافظ على الوعي بالخاصية
السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة، .
لقد كتب كانط هذه
الأفكار في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" في القرن الثامن عشر .وصحيح أن القرن العشرين
قد شهد تحسنا كبيرا للشرط البشري مقارنة مع قرن الأنوار: إلغاء الرق، التخفيف من
الميز ضد النساء...، بيد أنه عرف أيضا أهوال حربين عالميتين جسدتا واقعيا فكرة
الدمار الشامل، إنضافت إليهما حروب محلية شهدت أبشع أنواع التطهير العرقي ومعسكرات
الاعتقال... مما جعل التأمل الفلسفي، في القرن العشرين يعاود مجددا طرح السؤال حول
حرمة الكائن البشري وسلامته الجسدية وبالخصوص حقه في عدم التعرض للأذى،
"
موقف طوم ريغان:قيمة الشخص نابعة من كونه كائنا
حيا حاسا
تنتمي فلسفة طوم ريغان إلى التقليد الكانطي، لكن في
حين يؤسس كانط القيمة المطلقة التي نعزوها إلى الكائنات البشرية على خاصية العقل،
وبالضبط العقل الأخلاقي العملي، التي تتمتع بها هذه الكائنات،بما يجعل منها ذواتا
أخلاقية، فإن طوم ريغان يعتبر هذا التأسيس غير كاف، وحجته في ذلك أننا ملزمون
باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال وكذا الذين يعانون من
عاهات عقلية جسيمة
وعليه فإن الخاصية الحاسمة والمشتركة بين الكائنات البشرية
ليست هي العقل، بل كونهم كائنات حاسة واعية أي كائنات حية
تستشعر حياتها، بما لديها من معتقدات وتوقعات ورغبات ومشاعر مندمجة ضمن وحدة
سيكلوجية مستمرة في الماضي عبر التذكر ومنفتحة على المستقبل من خلال الرغبة
والتوقع...، مما يجعل حياتها واقعة يعنيها أمرها، بمعنى ان مايحدث لها، من مسرة
تنشدها أو تعاسة تتجنبها، يعنيها بالدرجة الأولى بغض النظر عما إذا كان يعني شخصا
آخر أم لا "
ويمضي توم ريغان بهذا المبدأ إلى مداه الأقصى فبخلص إلى أن جميع
المخلوقات التي يمكنها أن تكون «قابلة للحياة»، أي مواضيع لوجود يمكن أن يتحول
للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليها، تمتلك قيمة أصلية في ذاتها وتستحق أن تحترم
مصالحها في عيش حياة أفضل..
إذا كان تصور طوم ريغان يتجاوز بعض مفارقات
التصور الكانطي، فإنه يثير مفارقات لاتقل عنها إحراجا لأن معيار "الذات الحية التي
تستشعر حياتها" يلزمنا بإضفاء قيمة أصيلة مطلقة ليس فقط على الكائنات البشرية، بل
وحتى الحيوانات وبالخصوص الثدييات التي سنصبح مطالبين بمعاملتها كغاية لا كمجرد
وسيلة!
III-الشخص بين الضرورة والحتمية
استشكالات
أولية:
يبدو أن مدار الحديث عن مفهوم الشخص - كذات عاقلة وحرة
تنسب إليها مسؤولية افعالها - ينحصر في قضيتين: الكرامة والمسؤولية. يشير المفهوم
الأول إلى مايحق للمرء النمتع به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ماهو
ملزم او ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا.
بحثنا المفهوم الأول في المحور
السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصور بأن المسؤولية
لاتنفصل عن صفة أخرى وهي الحرية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، وهذه المرة
أيضا، بوصفه شخصا.
لن نتوقف عند الحريات السياسية لأن المانع دونها جلي واضح،
وهو النظام السياسي ومختلف أشكال التضييق والقمع التي يمارسها على حرية الأفراد في
التجمع والتعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من
قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير) ؛أو تلك الحرية التي تترتب عنها
المسؤولية المدنية أو الجنائية والتي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة،
ذلك أن القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفر
عنصر الحرية والاختيار، وبناءا عليه يعرض المتهم نفسه للعقوبات المقررة
هل هذه
الحرية المفترضة موهومة، لأن الشخص يرزح تحت وطأة مجموعة من الإكراهات والإشراطات
التي لايطالها وعيه أحيانا، أم أن الشخص البشري ليس موضوعا ولاتجوز في حقه مقولات
العلم وعلى رأسها الحتمية؟
موقف العلوم الإنسانية:
تتمثل الضرورة في خضوع الشخص لحتميات تتجاوز وعيه وتلغي
حريته
في المحورين السابقين تمت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية
الوعي وبشكل مجرد من كل تعيين، بيد أن الكائن البشري بنية سيكوفيزيولوجية وكائن
سوسيوثقافي، فلا يسعه الإنفلات من قوانين الفيزيولوجيا والمحددات النفسية
والإكراهات السوسيوثقافية.
إن تجاهل هذه الشروط هي مايجعل كل إنسان يعتقد أنه
السيد في مملكة نفسه، وأنه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته،
هناك مذاهب
فلسفية كثيرة قامت على فكرة الحتمية الكونية الشاملة فلم تر في الشعور بالحرية سوى
وهم ناتج عن جهل بسلسلة العلل والأسباب، وكما يقول اسبينوزا، فإنا الناس يعون حقا
رغباتهم لكنهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع او ذاك.
وبيدو أن العلوم الإنسانية المعاصرة تقدم دلائل إضافية داعمة للتصور الحتمي
السبينوزي،: فالتحليل النفسي مثلا يرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات
مرحلة الطفولة، كما أن الكثير من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو اللاشعورية
ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه "نيتشه": وراء أفكارك
وشعورك يختفي سيد مجهول يريك السبيل، إسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه
أصوب من صواب حكمتك"، بل إن بول هودار يذهب إلى حد القول بأن: " كلام الإنسان كلام
مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن
يعبر عن ذاته !!"
أما بالنسبة لعلماء الإجتماع والأنثربولوجيا، فإن طبقات مهمة
في الشخصية لاتعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية
الوظيفية لجماعة الإنتماء، بحيث يمكن القول مع دوركايم أنه كلما تكلم الفرد أو حكم
، فالمجتمع هو الذي يتكلم أو يحكم من خلاله. وإذا كانت التنشئة الإجتماعية تزود
الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فأن هذه الثقافة بدورها حسب التحليل الماركسي ليست
سوى انعكاس للبنية التحتية المستقلة عن وعي الذوات: لأن الوجود المادي هو الذي يحدد
الوعي لاالعكس.
حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأن
البنيات النفسية الإجتماعية اللغوية... هي التي تفعل وليس الذات أو الفرد. هل يمكن
بعد كل هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل
إرادي؟ هل للسؤال "من أنا " بعد من قيمة؟ !!
موقف
سارتر ومونييه:إن كون الكائن البشري شخصا هو بالضبط مايسمح له بأن يبارح مملكة
الضرورة؟
رغم كل ماذكر فإن الإنسان لازال يقنع نفسه بأن له شيئا
يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إن النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا ووعيا يمكننا من
القول بأن وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من
تأثيرها وإشراطها المطلق، لقد اشتقت الوجودية مقولة " أسبقية الوجود على الماهية "
من خاصية الوعي،، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته: يوجد
ويعي وجوده، مما يجعل وجوده تركيبة لانهائية من الإختيارات والإمكانيات؛ وعلى عكس
الطاولة أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبلية،
فإن الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته
على نحو قبلي مسبق. صحيح أن الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محددة
اجتماعيا وتاريخيا، لكن ردود أفعاله واختياراته لاتحددها هذه الشروط الموضوعية
وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح
مجالا واسعا للحرية وانفتاح الممكنات. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع
في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وبان الإنسان ليس شيئا آخر غير مايصنع
بتفسه.
ونستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأن الإنسان
ليس آلة إلكترونية، حتى لو أضفنا لها صفات الذكاء والصنع المتقن كما يقول إيمانويل
مونييه الذي يرفض كل اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع لأن البشر ليسوا صنفا من أشجار
متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية بمعنى أن كل المعرفة الوضعية التي راكمتهاالعلوم
الإنسانية لا يمكنها أن تستنفذ حقيقة الشخص الذي يظل أكثر من مجرد شخصية أي أكثر من
مجرد نظام سيكوفيزيولولجي وسوسيوثقافي
نلاحظ أن وجودية سارتر وشخصانية مونييه
يتقاطعان في رفض الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص والظاهرة الإنسانية عموما ظاهرة
خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولات العلم الموضوعي وعلى رأسها الحتمية، إن
الإنسان بالنسبة لفلاسفة الحرية تجربة ذاتية منغرسة في العالم لاتتوقف عن إبداع
نفسها ولكن تقول العلوم الإنسانية: إنه لايبدع ولايعبر إلا عن مجمل الشروط التي
يتلقى!
خلاصة عامة للدرس:
إذا كان لابد من خلاصة
تجمع أطراف موضوع متشعب كموضوع "الشخص"، فسنقول بأن الشخص، تلك الوحدة الصورية، ذلك
الكائن المفكر العاقل والواعي...إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة
تفاعل بين عوامل باطنية وأخرى متعلقة بالمحيط الخارجي، إنها ذلك الشكل الخاص من
التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية والإجتماعية. صحيح أن هذا التنظيم
يخضع لعوامل ومحددات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لايلغي دور الشخص في بناء شخصيته. وإذا
ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدد الأبعاد، فماذلك إلا لأن دراسة الشخص ليست إلا
إسما آخر لدراسة الإنسان بكل تعقده وغموضه